الكوليرا في السودان.. حين يتحالف المرض مع الحرب ضد الفقراء

الكوليرا في السودان.. حين يتحالف المرض مع الحرب ضد الفقراء
الكوليرا في السودان

 

في ظل حرب أهلية مدمّرة تعصف بالسودان منذ أكثر من عام، وجد وباء الكوليرا طريقه بسهولة إلى أجساد المنهكين في مخيمات النزوح والمناطق المنسية، تجاوز عدد الإصابات المؤكدة في مخيم دبة نيرة ومحيط طويلة بشمال دارفور وحدها 2700 حالة، وفق أحدث إفادة للمنسقية العامة للنازحين واللاجئين في السودان، مع ما لا يقل عن 50 حالة وفاة، وفي يوم واحد فقط، استقبلت مراكز النزوح أكثر من 90 إصابة جديدة، في مؤشر ينذر بانفجار وبائي خارج السيطرة.

يختزل هذا المشهد المأساوي معاناة مئات الآلاف ممن شرّدتهم المعارك الأخيرة في الفاشر ومخيمات زمزم وأبو شوك؛ هؤلاء فرّوا بأجسادهم المثقلة بالجوع والخوف، ليجدوا أنفسهم أمام عدو خفيّ أشد فتكًا: الكوليرا، التي تنتقل بسرعة مذهلة في بيئة تفتقر إلى أدنى مقومات النظافة والمياه النقية.

وباء قديم في جرحٍ لا يندمل

الكوليرا ليست غريبة على السودان، فالبلاد شهدت موجات وبائية متكررة منذ ستينيات القرن الماضي، لكن ما يزيد مأساة اليوم هو تزامن التفشي مع أسوأ أزمة إنسانية وسياسية تعصف بالبلاد منذ عقود، الحرب المندلعة منذ أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع دمّرت مراكز صحية، وأدت إلى نزوح أكثر من 8 ملايين شخص، معظمهم إلى مناطق مكتظة تفتقر للبنى التحتية.

وأفادت المنسقية العامة للنازحين واللاجئين، في بيان بأن انتشار الكوليرا في مخيم دبة نيرة ومناطق جبل مرة ونيالا سببه المباشر هو الاكتظاظ الشديد، حيث استقبل المخيم عشرات الآلاف الفارين من جحيم المعارك الأخيرة، ومع دخول فصل الخريف وهطول الأمطار الغزيرة، توالد الذباب وتلوثت مصادر المياه، فوجدت الكوليرا بيئة مثالية للانتشار.

أرقام صادمة وراء الأسوار المتهالكة

تقرير صادر عن منظمة التضامن الدولية كشف أن نحو 223 ألف شخص في منطقة طويلة يضطرون للتبرز في العراء، مقابل 41% فقط يحصلون على مراحيض، ما يرفع خطر انتشار الكوليرا والأمراض المنقولة بالمياه، ووفق تقييم أجرته المنظمة مع شركائها، تحتاج المنطقة إلى بناء أكثر من 15,500 مرحاض طارئ لتحقيق الحد الأدنى من المعايير الإنسانية.

المأساة لا تقتصر على المراحيض؛ إذ يقدَّر أن 90% من الأسر في مخيمات طويلة تعيش بلا مراحيض، و10% فقط يحصلون على مياه نظيفة بشكل منتظم. أما عن الوعي الصحي، فلم يتلقَّ سوى 39% جلسات توعية حول ممارسات النظافة الضرورية للوقاية من الكوليرا، رغم خطورة الوضع.

وأضاف التقييم أن 39% من النساء في مخيمات طويلة حوامل ومرضعات، في حين يشكل النساء والأطفال والأشخاص ذوو الإعاقة نحو 70% من النازحين، ما يجعلهم الفئة الأكثر هشاشة أمام وباء يهدد حياة الجميع بلا تمييز.

مرض الفقر والحرب

"الكوليرا ليست مجرد مرض معدٍ، بل هي انعكاس صارخ لفشل البنى الصحية وتدهور الخدمات الأساسية"، هكذا تقول منظمة العفو الدولية في تقرير حديث، لافتة إلى أن عوامل الحرب والنزوح والفقر في السودان تضافرت مع الانهيار شبه الكامل للنظام الصحي، لتفتح الطريق أمام موجة تفشٍّ جديدة.

منظمات حقوقية وإنسانية تؤكد أن آلاف النازحين يعيشون في خيام مؤقتة وسط نقص فادح في الغذاء والمياه والأدوية. وبحسب منظمة التضامن الدولية، يحتاج سكان طويلة إلى 65 بئرًا مجهزة بالطاقة الشمسية، للتخفيف من الاعتماد على شاحنات نقل المياه المكلفة، والتي لا تكفي لتغطية الاحتياجات اليومية.

أطفال ونساء في عين العاصفة

يمثل الأطفال والنساء الحوامل النسبة الكبرى من ضحايا الكوليرا في السودان، ليس فقط بسبب هشاشتهم الجسدية، بل أيضًا بسبب الظروف القاسية في المخيمات، فالنقص في الرعاية الطبية، وصعوبة الوصول للمستشفيات بسبب القتال، يجعل أي إصابة بالكوليرا تتحول إلى خطر حقيقي على الحياة.

تقول منظمة اليونيسف في بيانها الأخير: "هناك خطر وشيك بتفشي الكوليرا بشكل أكبر في المناطق المكتظة بالنازحين، ما قد يرفع معدلات الوفيات، خاصة بين الأطفال دون سن الخامسة".

حرب تُغلق الأبواب في وجه المساعدات

تشير المنظمات الدولية إلى أن استمرار القتال في إقليم دارفور وكردفان ونيالا يعقّد مهمة وصول فرق الإغاثة والمساعدات. فالطريق إلى مخيم دبة نيرة وطويلة محفوف بالأخطار؛ إذ تقع بعض المناطق تحت سيطرة جماعات مسلّحة مختلفة، فيما تعجز الجهات الإنسانية عن التحرك بحرية.

وبحسب المجلس النرويجي للاجئين، فإن المنظمات غير الحكومية لا تستطيع تلبية سوى 40% من الاحتياجات الأساسية لنحو نصف مليون شخص في طويلة، وهي نسبة كارثية في ظل انتشار وباء الكوليرا.

أزمة مزمنة تحتاج إلى أكثر من حلول إسعافية

على الرغم من الجهود الدولية، فإن غياب استراتيجية شاملة لمكافحة الكوليرا في السودان يبقى واضحًا، يعتمد معظم التدخل على حملات توعية محدودة، وتوزيع أدوات النظافة كالصابون وأقراص تنقية المياه، وهي حلول ضرورية لكنها غير كافية.

يقول خبراء الصحة إن الحل المستدام يبدأ بتحسين بنية الصرف الصحي وتوفير مصادر مياه نظيفة دائمة، وهو ما يبدو صعبًا في ظل الحرب، ويُشير تقرير مشترك لمنظمتي "أطباء بلا حدود" و"التضامن الدولية" إلى أن بناء مراحيض طارئة وحفر آبار جديدة يحتاج إلى تمويل عاجل لا يتوافر حاليًا.

دارفور بين النزوح والأوبئة

منذ اندلاع النزاع في دارفور عام 2003، تعرض الإقليم لموجات نزوح متكررة، وواجه السكان ظروفًا غير صحية ساعدت على تفشي أمراض قاتلة. ومع كل جولة عنف، يتجدد الوباء: الكوليرا، الحصبة، الملاريا، وحتى شلل الأطفال.

اليوم، التاريخ يعيد نفسه في مشهد أكثر قتامة فهناك أكثر من نصف مليون نازح في محلية طويلة وحدها، يعيشون في العراء بلا صرف صحي، ولا مياه نظيفة، في حين يهدد وباء الكوليرا الجميع.

في ظل استمرار الحرب، وتفاقم أزمة النزوح، تبدو السيطرة على الكوليرا في السودان رهينة بوقف القتال أولًا، ثم تدفق التمويل والمساعدات بشكل عاجل. 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية